استمع الي هذه الصفحة من تاريخ مصر ،كتبها اديب من اصل سويسري اسمه شارل ديدييه ،اقام بمصر ايام عباس الاول و سعيد ،و ترك لنا كتابا عنوانه "ليالي القاهرة" ،جاء في الصفحة الثامنة بعد الثلاثمائة من طبعة باريس عام 1860 ،ما يلي:
"حان الوقت لاحدثكم بامر الجهادية في مصر ،و كيف نظمها محمد علي و حفيده عباس ،الذي لم يحتفظ من اعمال جده الا باشدها نكرا و سوءا .و ما تزال شئون الجهادية تجري علي هذه الوتيرة الي اليوم ،تحت حكم "المصلح العظيم" سعيد.
يجند الناس بمقتضي نظام جائر تثور له النفوس .فالتجنيد هنا عملية سطو ضارية ،تقوم بها عصابة من الباشي بوزق اختيروا لهذه المهمة علي اساس استعدادهم لها ،و خلو قلوبهم من اي اثر لمشاعر الانسان .
تنزل هذه العصابة بالقرية المسالمة نزول الجوارح و الضواري علي الحيوانات الاليفة ،فتضرب عليها حصارا وثيقا لا ينجو منه انسان ...و تعيش علي حساب اهل القرية حسب ما يحلو لها ،و تقرر علي القية العدد المطلوب للجهادية من شبابها الاقوياء ،و شيخ البلد هو الموكل بتحرير قوائم المجندين.
فاول ما يفعله هذا الشيخ ،هو ابعاد اسماء اولاده ،و اولاد اقربائه ،من القوائم ؛فاولاد احبائه و محسوبيه ،حتي لا يتبقي في القائمة سوي اسماء الغلابة من عباد الله.
و نظارة الجهادية لا تعني بنوع المجندين ،اذ يهمها العدد المحدد من الانفار ...و اذا اكتشفت تلاعب شيخ من مشايخ البلاد ،او اتضح لها تغاليه في الاعفاء ،فان الجهادية تفصل في الامر ...بفصل راس الشيخ عن جسده ،ليذهب في المشايخ مثلا.
لن يحشد اذن ابناء الاعيان في سلك الجهادية ،و البركة في شيخ البلد ،و ممالاته لهم ؛هذا ان لم تكن في حكيم الجهادية نفسه ،الذي تخصص قي باب من فنون الطب غير معروف في الكليات الطبية .و لهذا الباب علاقة مباشرة بثروة اهل من يجري الكشف عليهم من المرشحين للجندية ؛و يظهر اثر هذا التخصص الطبي في نتائج الكشف ؛فجميع اولاد الاعيان تفريهم العلل ،و تقعدهم عن العسكرية شتي العاهات .اما اولاد الايه ،فكلهم ،بقدرة قادر،يتمتعون بالصحة و العافية ،لا تعرف العاهات طريقها الي اكواخهم .
و هي ظاهرة عجيبة ،لعلها من اسرار علم الاحصاء .و من الاعجب انها تتكرر عاما بعد عام.
لا شك انها تكلف الاهلين مالا له صورة...و انها مصدر ثراء للحكماء الذين يضعون علمهم في خدمة الاصفر الرنان .و يؤسفني ان اقرر بان اغلب اولئك الاطباء من الافرنج ،و ما اقل من يمكن ان يترك منهم بين المصريين شيئا من حسن الاحدوثة و طيب الذكر.
جيش مصر في عهد محمد علي و ابنائه و احفاده ،لا يجند الا من بين اولاد الفلاحين المعدمين .فما ان ينتهي شيخ البلد من حشد حشوده،حتي يسلمها للباشي بوزوق ،و هؤلاء يسوقون المجندين الي "مصر المحروسة"،موثقي الايدي مقيدي الارجل ،في حراسة قوية ،و كانهم من عتاة المجرمين .
كنت اري جماعاتهم تمر بي كل يوم ،و انا جالس الي قهوة تحت داري بحي الازبكية ،في رتل طويل يسوقه الباشي بوزوق الي القشلاقات سوق السائمة ؛منظرهم يفتت الاكباد ،فقد انتزعوا عنوة من بين اهلهم ،و من بين احضان الحرية ؛يسيرون مثني مثني ،مربوطين برقابهم الي حبل من مسد ،يمتد علي طول الرتل .فتية ترتسم علي وجوههم و في اجسامهم العجاف اثار التعب و الجوع،لا تكاد تستر عوراتهم اثمال قذرة كانت في ما مضي هدوما زرقاء.
و سرب من النساء يتبع قطيع الادميين :امهات و اخوات و زوجات يتبعن اعزائهن من القرية حتي العاصمة ،يتحملن ما يتحمل رجالهم.
من عناء السفر ،و يحاولن ما استطعن ان يخففن عنهم وطاة الجوع و العطش بجرار من الماء ،و قليل من خبز الاذرة والبلح.
اما رعاة هذا القطيع البشري ،فكانوا من فرسان الارناؤط ،يحفون بالصف و سيوفهم تضرب بطون افراسهم ،و الطبنجات تتخم مناطقهم ،و الكرباج مغلول الي ارساغهم.
و في القشلاق يتسلمهم"جاويشية العلام" ،و هم اضل سبيلا و اسوا منقلبا .و من لغو القول ان اذكر بان هؤلاء المجندين لا يبلغون شيئا في اورطهم ،لان الرتب العسكرية من حق المحظوظين ،دون قاعدة او قانون ؛و الغلمان من ابناء الذوات ،و اخدان عباس باشا
،و اصحاب مزاجه ،و محاسيب سعيد باشا ،يلعبون بالرتب العسكرية لعب الاولاد بالاكر.
طبيعي ان يكره المصريون عموما ،و الفلاحين بخاصة ،الجهادية اسما و رسما ،حتي يهرب من يستطيع الهرب منهم الي البادية و كهوف الجبال ،ليجنب نفسه الذل و الهوان .مع ان الفلاح المصري من ارفق الناس باهله و قريته ،و من الصق اهل الارض تعلقا بالارض التي انبتته ...
و كيف يمكن ان تحب النساء و الاولاد و الاباء العجزة هذه الجهادية ،تنتزع من بينهم القائم علي اودهم ،ليغادر ضفاف النيل الحاني ..و يذهب الي الحرب امام قلاع نهر الطونة؟
.......................
عن كتاب/ سندباد مصري"جولات في رحاب التاريخ"
تاليف /حسين فوزي
ص96،97،98
....................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق